الخطبة الأولى:
معاشر المؤمنين..
وصية الله لكم في كل آن وحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102).
إخوة الإسلام..
خطر لا نستشعر خطورته، وخطر لا نعطيه أهميته، وخطر قلّ من يتحدث عنه سيما في المساجد وعلى أعواد المنابر، أبدؤه بكلمات من أعدائنا لعل ذلك يوقظ ويلفت الانتباه إلى مثل هذا الخطر، مفكر يهودي قال في القرن التاسع عشر وهو إليعازر بن يهودا: "لا حياة لأمة دون لغة"، ثم بدأ مع غيره مشروع إحياء لغة دينية ميتة لم يكن يعرفها إلا قلة من اليهود المتدينين حتى أصبحت اليوم اللغة العبرية لغة دولة تدرس من الروضة إلى الدكتوراه في علوم الطب والفضاء وسائر العلوم المختلفة، فكان قوامها أي تلك الدولة المغتصبة دين تزعمه ولغة أحيتها.
ويقول أديب العربية الكبير الرافعي: "ما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمرها في ذهاب وإدبار"، ربما هذه المقدمات كذلك لم تبلغ من السامعين مبلغها في الاهتمام بذلك، الأمر الخطير أمر اللغة العربية وأهميتها في حياتنا وقد سار كثير منا في كثير من الأحوال أعجمياً لا يفهم كثيراً من مفردات لغته ولا تراكيبها ولا أساليبها.
اللغة في كل أمة عماد هويتها.. لماذا؟ لأن العلوم والمعارف والفنون والآداب والتاريخ والحضارة لكل أمة كُتبت بلغتها، فإذا قُطع الحبل بينهم وبين لغتهم انبتت صلتهم بتاريخهم وحضارتهم وعلومهم ومعارفهم وآدابهم وفنونهم، ومن هنا فإن هذه القطيعة خطيرة وإن هذا المعلم من معالم الهوية من أكثر الجوانب التي تُؤتى منها الأمم، وقد قال ابن خلدون قديماً وهو يذكر وقائع المجتمعات: أن الأمة المغلوبة تتبع الأمة الغالبة في كثير من أحوالها حتى في زيها وطعامها ولبسها وهيئتها ولغتها وكلامها، ولئن كان هذا في كل أمة فنحن معاشر المسلمين لدينا قضية كبرى أعظم من كل ذلك وهي أن لغتنا أساس ديننا، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، اللغة الإنجليزية ليست هي لغة الإنجيل مع ما فيه من تحريف، وليست هناك لغة كتاب سماوي في أصله موجودة بأصلها إلا هذه اللغة وهذا الكتاب، {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {192} نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ {193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ {194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195).
قال ابن كثير في تفسيره: "إنا أنزلناه بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل ليكون بيّناً واضحاً ظاهراً قاطعاً للعذر مقيماً للحجة دليلاً إلى المحجة"، وقد أكرم الله هذه الأمة فخصها بأكمل دين وأشرف رسول وأصدق كتاب وأفضل وأحسن لغة ولسنا هنا نقارن لكن كل هذه المعالم مهمة في البناء وقيامه وقوته.
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2)، فإن لم تكونوا عرباً أو لم تعرفوا العربية والعربية هي اللسان فلن تعقلوا ولن تفهموا ولن تدركوا المعاني ولن تعرفوا الغايات ولن تعرفوا ولن تعلموا المقاصد ولا الكليات، {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين}، أصبحنا اليوم في غربة عن هذه اللغة مع كونها أساساً في الدين فلا يدخل المرء الإسلام إلا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا يقيم الصلاة إلا بفاتحة الكتاب والتكبير والتسبيح بلغة العرب أو باللغة العربية، ولا يستطيع أن يتلو كتاب الله ليحيي قلبه وليلقى أجر ربه إلا بتلك اللغة ولا يستطيع أن يعرف كثيراً من الأحكام الشرعية المكتوبة في إرث هذه الأمة بلغة العرب إلا إن كان عارفاً للغة، ومن هنا قال الإمام العظيم الشافعي رحمه الله: على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جهده حتى يشهد أن لا إلا الله وأن محمداً رسول الله ويتلو من كتاب الله وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير وما أمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك، فهل نحن اليوم حتى نحن معاشر الجالسين هنا عرباً بالمعنى الذي نعرف به العربية لا أقول في أعماقها بل في أبسط وفي أقرب معانيها ويهمنا أن نقول في نصوصها التي نحن متعبدون بها، واحد وستة من عشرة مليار مسلم، الناطقون بالعربية من أمثالنا ونحن لا نحسن العربية وربما لو كان هناك العرب القدامى لرأوا أننا أقرب إلى الأعاجم منا إلى العرب، لكن أقول هناك أربعمئة مليون من الناطقين بالعربية فأين مليار ومئتي مليون مسلم من جسر يصلهم بكتاب ربهم ويعرفهم بدينهم ويطلعون به على تاريخهم ويعرفون به حضارتهم.
ودعوني هنا أقف وقفات يسيرة لأعبر عن الخطورة، اليوم أصبحنا لا نكاد نفقه كثيراً مما نتلو من القرآن ولا أتحدث عن شعر ولا أتحدث عن لغة عربية فصيحة بل الكتاب الذي نحن متعبدون بتلاوته والأجر في حفظه وتدبره ونحو ذلك، {كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} (العلق: 15)، لو أردت أن أقول آيات كثيرة سأذكر: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} (فاطر: 13)، هل نعرف القطمير؟ هل نعرف لنسفعا؟ هل نعرف كلمات كثيرة؟ إذا جهلنا معناها لم نعرف المعنى وأصبحنا نقرأ باللسان العربي لكننا لا نفقه، ولا نعرف الدلالة والمعنى ولا المغزى فكأننا حينئذ لا ننتفع ولا نستفيد، قُطّعت الأوصال، ولست أتحدث هنا عن الكلمات المفردة بل حتى الكلمات والصياغات التي درجنا على غيرها فلم نعد نفقه معناها أو نريد أحياناً أن نغير دلالتها القرآنية ولا نكاد نستوعبها، {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: 1)، لو قلنا اليوم لفلان إنك زوج فلانة لغضب وثارت ثائرته كيف تقول إني زوج، وكأن زوج تخص الأنثى ولا يدرك أنها كلمة تطلق على المعنيين وهكذا في أساليب كثيرة، ولا نكاد ندرك فرق المعاني: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} (الملك: 15)، {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة: 9)، لِمَ لَمْ يقل فامشوا إلى ذكر الله واسعوا في مناكبها، كل كلمة بل كل حرف في القرآن له دلالته ومعناه ومغزاه، وله بلاغته وإعجازه، كم نحن بعيدون عن ذلك وغريبون عنه فيفوتنا من ذلك خير كثير، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} (يوسف: 82)، أساليب القرآن، أمثال القرآن، {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (النور: 35)، ما هو هذا المثل؟ وإذا لم نعرف المثل ولم نعرف وجه الشبه لم نعرف الفائدة ولم نعتبر ولم نتعظ، والله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت: 43)، أي هذه الأمثال فإذا جهلنا لم نستفد منها ولم ننتفع بها، والأمر في هذا يطول.
والأخطر من هذا كله أننا نحن الذين نحارب لغتنا، وندمر مستقبل أجيالنا، ونؤسس لأخطر معلم حضاري يتهدد أمتنا، من خلال ما نصنعه للغتنا العربية في المستوى الداخلي والخارجي، الداخلي كيف يتحدث إعلامنا؟ وبأي لغة تنطق فنونا؟ إذا استمعنا اليوم إلى ما يسمونه شعراً لرأينا أننا نسمع كلاماً أغرب وأعجب ما يمكن أن تسمعه.
ولو استمعنا إلى اللغات المحكية في الإعلام فسنجد كذلك بعداً عن هذه اللغة، ولا شك أنكم قد مررتم مرة على الأقل بقناة عربية تنقل أحاديث لأقوام من العرب يتكلمون بلهجتهم الدارجة والقناة تكتب الترجمة باللغة العربية لأننا لا نكاد نفقه شيئاً مما يقولون وربما إذا تكلمنا لا يفقهون عنا، وقد كانت لغة العرب قديماً هي اللغة الجامعة بين الفرس وبين الهند وبين السند وبين كل تلك الأقاليم التي دخلت بلغاتها وثقافاتها فكان التواصل يتم عن طريق العربية، بل اليوم لا تعجبوا إن قلت لكم إن الدولة التي انفصلت وسميت دولة جنوب السودان فيها لهجات ولغات شتى فلم يجدوا جامعاً يجمع بينهم إلا اللغة العربية فصارت هي اللغة الرسمية التي يتم التعامل بها.
وتشاد دولة إفريقية ليست منضمة إلى الجامعة العربية وهي تتحدث العربية الفصحى وقبائلها أصولها من قبائل ذي يزن العربية في اليمن، عجائب في واقعنا كثيرة ليس هذه إلا نزر يسير منها، لكن الطامة الكبرى اليوم أننا ننحر اللغة العربية في مجالين اثنين من أخطر المجالات:
أولهما التعليم: فكثير بل كثير جداً من جامعاتنا لا تأبه بالعربية ولا تدرس بها سيما العلوم العصرية من الطب والهندسة وغيرها، وكذلك في المراحل التعليمية العربية لا تحظى بالاهتمام وهي عند طلابنا أعقد المواد وأبغضها إليهم وأكثرها نفرة عندهم، وهكذا، وهكذا...
وفي مجال الأعمال اليوم إن كنت تحسن العربية بأحسن ما تفصح فلا موقع لك من الإعراب، ولا مجال للتوظيف إلا إن كنت تجيد لساناً أعجمياً غير مبين أو مبين بلغتهم، وهكذا صرنا نحاصر لغتنا في بيئتنا، اليوم إذا ذهبت إلى أي مشفى من المشافي أو فندق ونزل من الفنادق فإنك لا تستطيع التعامل مع الآخرين في بلادك التي أنت فيها وفي قعر وفي موطن العربية إلا أن تحسن الكلمات بالرطانة الأجنبية، والعجيب أن هذا ليس في بلاد أخرى، بل جل البلاد للأسف الشديد مقارنة بنا تحتفي بلغاتها، ودائماً أضرب لكم مثلاً سأضربه مرة أخرى فنلندا دولة لا يسكنها إلا خمسة ملايين من البشر فقط، لها لغتها الخاصة بها التي لا ينطق بها في هذه الكرة الأرضية إلا أهلها تدرس من أول المراحل إلى أعلى المراتب بلغتها، وتدرس بعد ذلك اللغات الأخرى التي يحتاج إليها أبناؤها كلغة يتصلون بها مع العالم ويستفيدون منه.
قضية اللغة قضية دين وقضية إسلام لنا نحن المسلمون، وهي لنا ولغيرنا قضية هوية وثقافة وتاريخ وحضارة، وإهمالنا لها خطر عظيم.
أسأل الله عز وجل ألا يجعل ذلك حاجزاً بيننا وبين كتاب ربنا وسنة نبينا وأن يرزقنا العلم بهذه اللغة والفصاحة فيها والبلاغة بالنطق بها، وأن يجعل ذلك عوناً لنا على طاعته ومرضاته.
الخطبة الثانية:
معاشر المؤمنين..
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فاتقوا الله في السر والعلن واحرصوا على أداء الفرائض والسنن.
إخوة الإسلام..
قلت في مقدمة حديثي إن هذا الخطر لا يتحدث عنه كثيرون ولا يتم الحديث عنه فوق المنابر على وجه الخصوص، وأنا أنظر إلى كثير منكم وأتفرس في الوجوه وكأني ببعضها يقول: ولماذا تطرح علينا هذا الأمر؟ وما أهميته لنا؟ وكأني أجدهم سيجدون موضوعاً آخر في بعض الإيمانيات أو عن الذكر أو عن الاستغفار أولى وأكثر أهمية، وهنا أقول إن ما أتحدث عنه أعظم في أهميته من كثير من الموضوعات التعبدية لأن هذا هو جسر إليها وهو الموصل إلى حقيقتها وفهمها ومن ثم إلى حصول نفعها وأثرها.
ولذلك أختم هنا بما يجب علينا...
أول أمر: استشعار الخطر، وأنا أرى أنه حتى هذه اللحظة وغيرها نحن لسنا مستشعرين لهذا الخطر وإذا أردتم أن تستشعروه خذوا القرآن وافتح واقرأ نصف جزء وضع خطاً تحت الكلمات والأساليب التي لا تعرف معناها، فستجد أنها تزيد عن 20 أو 30 أو 40%، يكفيك هذا أن تطأطئ رأسك خجلاً وأن تفتح عينك انتباها وأن تلتفت إلى هذا الأمر الخطير، أما إذا ذهبت لتقرأ في كتب أهل العلم من التفسير وشروح الحديث والفقه والأصول فأحسب أنك قد لا تعرف إلا حروف الجر وبعض الكلمات وتصبح كأنك غريب لا تعرف هذه اللغة، هنا مكمن الخطر.
الأمر الثاني: أجيالنا وأهم قضية هنا أقولها، العناية بتلاوة وتحفيظ القرآن من أعظم الأسباب المقوية للغة العربية نطقاً وفهماً وإحياءً للقلب وفيها ما فيها من الأمور الكثيرة من الفضائل.
والأمر الثالث: العناية باللغة العربية لأبنائنا، لو سألت لوجدت كثيرين منكم استجلبوا مدرسين للغة الانجليزية لتقويتها، وربما بعضهم يسجل أبناءه في المعاهد أو يجعلهم يسافرون إلى بلاد في الإجازات لا اعتراض على ذلك، لكن أليس من العيب أن لا يكون لنا نصف مثل هذا الاهتمام لأبنائنا، لنأتي بمن يدرسهم حتى يحسنوا لغتهم، حتى يكونوا فصحاء بلغاء، حتى يكونوا نجباء شعراء، حتى يستطيعوا أن يتحدثوا بهذا اللسان.
اليوم وقد عملت هذه التجربة غير مرة لعدد غير قليل من الطلاب الكبار في الجامعات وغيرها، أعطه عنواناً أو فكرة وقل له تحدث في هذا الآن مدة ثلاث دقائق أو دقيقتين، لا يستطيع.. لا يحسن.. لا يمكن أن يكمل، هذه قضية آمل أن ننتبه لها وننتفع بها.
رابعاً: مسؤولية خطيرة على مستوى الأمة والدولة العناية بتعليم العربية في كل مراحل التعليم وليس مجرد تعليمها وإنما العناية بها وبمدرسيها وبمناهجها وبوسائلها والترغيب فيها والتحبيب لها وتكثيف البرامج المصاحبة لها، حتى نكون منتمين إلى لغتنا، وليس هذا المقام مقام مقارنة بلغات أخرى وإلا لرأيتم في ذلك عجباً كبيراً.
وأخيراً وليس آخراً: هذا الاعلام الذي أفسد الأخلاق وتسبب في انحراف فكري وعقدي، هو كذلك أفسد لغتنا حتى صارت اليوم لغة الإعلام المكتوبة في عناوين البرامج تستخدم أقذع وأبشع ما يمكن من التحريف والبعد عن اللغة العربية واستخدام العاميات التي فيها ما فيها.
وأخيراً أيها الإخوة الكرام: لابد لنا أن ندرك أن هذا من أسباب قوة أمتنا وعزتها، فإنه بالفعل عندما تجوب الديار والبلاد تذهب إلى بعض البلاد وقد سافرت إلى الصين قديماً وحديثاً لم أجد من يتحدث غير الصينية ولا تجد اللوحات مكتوبة إلا بها، ولا تجد أحداً إلا وهو معتز بلغته، ونحن لا نقول غير ذلك في بلادنا وفي مجتمعاتنا العربية لكن البون شاسع والفرق كبير.
ومرة أخرى أختم بأننا نتحدث من هذا المنبر عن أمر هو من أهم أمورنا الدينية لأنه متصل بكتاب ربنا وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، ألهمنا الرشد والصواب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق